الحمد لله رب العالمين الذي أنعم على عباده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، وجعل للمؤمنين مواسم ومحطات تذكرهم بأمر الآخرة والأولى، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.. أما بعد:
فلئن فاخرت الأمم -من حولنا- بأيامها وأعيادها وأخلعتها أقدارا زائفة، وبركات مزعومة وسعادة واهية فإنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال.. ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد، فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها وألهمها رشدها وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها..
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى) رواه أبو داود والنسائي. والعيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من أجلِّ مظاهره.. تهاون به بعض الناس وقدموا الأعياد المحدثة عليه.. فترى من يستعد لأعياد الميلاد وأعياد الأم وغيرها ويسعد هو وأطفاله بقدومها ويصرف الأموال لإحيائها.. أما أعياد الإسلام فلا قيمة لها بل ربما تمر وهو معرض عنها غير ملتفت إليها.. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} الحج:32.
إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته، وخلصت لله نيته.. ليس العيد لمن لبس الجديد وتفاخر بالعدد والعديد.. إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد.. وسكب الدمع تائبا رجاء يوم المزيد..1
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية تستعد في هذه الأيام لاستقبال مناسبة عظيمة من مناسباتها، وهي عيد الأضحى المبارك. وقد قيل: من أراد معرفة أخلاق الأمة، فليراقبها في أعيادها. إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها. والمجتمع السعيد الصالح، هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة. وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء.
أيها المسلمون: إن العيد في دين الإسلام، له مفهومه الخاص، وله معناه الذي يخصه دون سائر الأديان ودون سائر الملل والنحل.
إن العيد في الإسلام أيها الإخوة، غبطة في الدين، وطاعة لله، وبهجة في الدنيا والحياة، ومظهر القوة والإخاء، إن العيد في الإسلام فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات.
إن العيد في الإسلام، خلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى. والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار.
إن العيد في الإسلام لا كما يتصوره البعض، انطلاقاً وراء الشهوات، وحلاً لزمام الأخلاق وتفسخاً على شواطئ البحر، وعرضات هنا وهناك. إن العيد في الإسلام، ليس فيه ترك للواجبات، ولا إتيان للمنكرات.
في الناس ـ أيها الناس ـ من تطغى عليه فرحة العيد، فتستبد بمشاعره ووجدانه، لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد، والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي. والكبر والتعالي.
وما علم هذا أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا بعد عز، فتهيج في نفوسهم الأشجان، وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان.
قد يأتي العيد على أناس، ذاقوا من البؤس ألواناً بعد رغد العيش، قد يأتي العيد على أناس تجرعوا من العلقم كؤوساً بعد وفرة النعيم، فاستبدلوا الفرحة بالبكاء وحل محل البهجة الأنين والعناء.
فاتقوا الله أيها المسلمون في عيدكم، لا تجعلوه أيام معصية لله، لا تتركوا فيه الواجبات، ولا تتساهلوا في المنكرات. لا يكن نتيجة عيدكم غضب ربكم عليكم. فإن غضب الله شديد، وعقوبة الله عز وجل، لا يتحملها الضعفاء أمثالنا.
اتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في عيدكم، واجعلوه عيد عبادة لله، عيد طاعة، عيد توبة صادقة، عيداً ترتفع فيه أخلاق الأمة. عيداً نثقل فيه ميزان حسناتنا، عيداً نكفر فيه عن خطايا سابقة، ارتكبتها جوارحنا. قال الله تعالى: {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} الزمر:53. وقال سبحانه: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ} طه:82. وقال عز وجل: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} يونس:58.
أيها المسلمون، كذلك أيضاً يجب أن لا تُنسينا فرحة العيد أن هناك آلاماً وجروحاً في الأمة لم تلتئم بعد. هناك من أبناء الأمة الإسلامية أناس أبرياء مظلومون. سوف يدخل عليهم العيد، وما زالوا تحت وطأة الظلم والقهر والعدوان. كم من يتيم يبحث عن عطف الأبوة الحانية. ويتلمس حنان الأم. وأبوه قد ذهب وقطعت أوصاله بسبب رجم القنابل. وأمه لا يعلم مصيرها إلا الله. سوف يحل العيد بأمة الإسلام، وهناك من يرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه. جاءنا العيد، وهناك الألوف من الأرامل اللاتي توالت عليها المحن فقدت زوجها، تذكرت بالعيد عزاً قد مضى تحت كنف زوج عطوف.
وفوق كل هذا أيها المسلمون، سوف يقدم العيد، ومازالت هناك أراضٍ للمسلمين مغصوبة، منها ما ترضخ تحت وطأة يهود. ومنها مازالت تفتك بها الشيوعية الحمراء. أو الصليبية النصرانية في كثير من أقطار المسلمين..
فأي عيد هذا الذي نفرح فيه. وسهام الشر وسموم العدو يفتك في أجسامنا من كل ناحية. فحق على كل مسلم، حق على كل من في قلبه شعلة إيمان مازالت متوقدة، أن يتذكر كل هذا وهو يستقبل عيده. حق على كل مسلم أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزة قوم قد ذلوا. كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة، بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها. فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها. حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً، فلا تنس أفغانستان ولا فلسطين، ولا العراق وأراضٍ للمسلمين أخرى منكوبة بمجاهديها وشهدائها. بأيتامها وأراملها. بأطفالها وأسراها. كم هو جميل أن نتذكر ونحن نستقبل العيد أن هناك الألوف من الأسر المنكوبة، من يقدم يد الاستجداء والمساعدة، بلقمة طعام، أو كساء لباس، أو خيمة غطاء. وفي المسلمين أغنياء وموسرون. ولكن مع الأسف، استغل النصارى هذه الحاجة الملحة عندهم، لسد جوعتهم، فقاموا بإطعامهم وكسوتهم مع تقديم جرعات لهم من النصرانية مع كل كأس ماء. أو كسرة خبز.
لقد نشط المبشرون النصارى، وكثفوا جهودهم في أوساط هذه الأسر الفقيرة، والمسلمون وأغنياء المسلمين في حالة يرثى لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكم هو جميل كذلك أن يقارن الاستعداد للعيد، لفرحته وبهجته، استعداداً لتفريج كربة، وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى. يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج، فإن لم تستطع خيلاً ولا مالاً، فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية، ولفتة طاهرةٍ من قلب مؤمن.
إنك حين تأسوا جراح إخوانك إنما تأسوا جراح نفسك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ} البقرة:272. وقال سبحانه: {مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ} فصلت:46. أسأل الله أن نكون بهذا المستوى ونحن نستقبل عيدنا..2
نحن -أمة الإسلام- جعل الله لنا من الأعياد عيدين فقط نفرح فيهما، عيد الفطر وعيد الأضحى. يفرح المؤمن أولا، لهداية الله تعالى له، وإنعامه عليه بدين الإسلام الذي ارتضاه له فقال {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة، يفرح لأن الله تعالى هيأ له مواسم طاعة وعبادة مستمرة متعاقبة، يغتنمها العبد ، فيجني الثواب تلو الثواب، ويحوز الخير كل الخير.
وأعيادنا أيها المسلمون تأتي بعد هذه المواسم، فالصائم يفرح لأنه صام رمضان وقامه، وتخرج من مدرسته العظيمة، وحصل على شهادة " التقوى" حين قال الله تعالى في آية الصيام (لعلكم تتقون) وهذه " الأيام العشر من ذي الحجة" ما أعظمها وأجلها عند الله تعالى ، هي أفضل أيام السنة على الإطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)، قالوا : يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)3 فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر إلى الإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
في هذه الأيام تجتمع أصناف العبادة كلها من صلاة وصوم وصدقة وحج ونسك. وفيها يوم عرفة يباهي الله بأهل عرفة أهل السماء، ومن صام هذا اليوم من غير أن يكون حاجا كفرت عنه ذنوب سنتين.
ثم يأتي العيد عقب ذلك كله، لهذا نفرح، وحق لنا أن نبتهج ونفرح، هذا هو مفهوم العيد في الإسلام.
إن يوم العيد يوم شكر له على إنعامه، يوم يفرغ العبد فيه من أداء فريضته فيكافئه سيده ومولاه، لذا نقول لك أخي المسلم، هذا فهمنا للعيد، إنه يوم طاعة فلا تجعله يوم معصية4.
جعلنا الله وإياكم من عباده الصالحين وغفر لنا برحمته إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الأعياد مواسم للفرح والصلة والذكرى، وزينها بحلاوة الذكر والعبادة والتقوى، وألهم المتقين فيها إلى فعل الطاعات وتذكر الممات وما بعده من المهمات، وصلى الله على عبده ورسوله الأكرم نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:
إن المفهوم الحقيقي للعيد في الإسلام هو كما سمعتم من أنه فرح وسرور منضبط بضابط الشرع الحنيف، لا تسيره الأهواء ولا الشهوات، ولا تكدره المعاصي والسيئات.. إن بعض الناس من المسلمين يفهم العيد على أنه يوم للخروج عن قيم الشريعة ومسلماتها وآدابها وأخلاقها، فتراه لا يعرف لله قدرا ولا يرفع لشرعه رأساً، همه في يوم عيده تحقيق أكبر قدر من اللذات ولو كانت في الحرام، وتمزيق الأوقات ولو كانت في الآثام..
عباد الله: اتقوا الله تعالى وتذكروا يوما تشيب فيه الولدان وتضع كل ذات حمل حملها من شدة الهول وعظمة الموقف، وفظاعة المنظر.. ويكون ذلك بأن تقفوا عند حدود الله ولا تتجاوزوها، وأن تعرفوها قبل ذلك، وإننا ننبه المسلمين إلى أمور منكرة يقع فيها بعض المسلمين في الأعياد لأنهم فهموا العيد على ما في نفوسهم وأهوائهم ولم يفهموا العيد على ما أراد الله لهم، فمن تلك الأخطاء:
- ما تفعله بعض النساء من التبرج وإظهار المفاتن والزينة.. أيها الزوج والأب ذكر ابنتك وزوجتك قوله صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)5.
- الاختلاط بين الرجال والنساء والاختلاء بين الرجل والمرأة، فذلك يفضي إلى الشرور والمفاسد.
- واللهو واللعب الذي يشغل عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
- والحفلات والمهرجانات الغنائية.
- والرحلات الجماعية المختلطة.
- والعكوف على مشاهدة الفضائيات الهابطة التي تنشط أيام العيد فتقدم الأفلام والمسرحيات والبرامج المنحلة.
- والإسراف والتبذير في المأكل والملبس.
اجعل -أخي- عيدك عبادة لربك، واجعل فرحك ولهوك منضبطا بشرع الله تعالى وعلى هدي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
العيد أيها المسلمون صلة للأرحام وتفقد للمحتاجين، وتذكر للمنكوبين في كل مكان.. المسلم الحق الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا هو من لا تشغله أفراحه عن أتراح وأحزان أمته المنكوبة في كثير من الأقطار والدول..
فلكم أيها المسلمون إخوة مؤمنون مغصوبة أراضيهم منتهكة أعراضهم مدمرة مساجدهم في كل من العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها، كلها تحتاج من المسلم هما وحزنا ودعاء ودعما ومشاركة في الأحزان ومساندة بالأموال والأنفس والأقلام..
آه ثم آه.. أي عيد يحلو لنا ونحن نشاهد إخوة لنا تنكبهم الحروب وتطحنهم الفتن والمصائب! أي عيد يصفو للمسلم الحق وهو يسمع أنين الثكالى وآهات اليتامى وبكاء الأرامل وصياح المستغيثين..
نسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الضر عن المسلمين في كل مكان، وأن يعيد عليهم العيد وقد تحقق لهم النصر والتمكين،،
اللهم عليك بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى وجميع الكفار وعملائهم من الزنادقة والمنافقين، اللهم أرنا في أعدائك عجائب قدرتك..
اللهم اجعل العيد على المسلمين خيرا وبركة وعلى الكافرين المعتدين جحيما ونارا.. لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم..
أيها المسلمون صلوا على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين
فلئن فاخرت الأمم -من حولنا- بأيامها وأعيادها وأخلعتها أقدارا زائفة، وبركات مزعومة وسعادة واهية فإنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال.. ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد، فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها وألهمها رشدها وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها..
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى) رواه أبو داود والنسائي. والعيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من أجلِّ مظاهره.. تهاون به بعض الناس وقدموا الأعياد المحدثة عليه.. فترى من يستعد لأعياد الميلاد وأعياد الأم وغيرها ويسعد هو وأطفاله بقدومها ويصرف الأموال لإحيائها.. أما أعياد الإسلام فلا قيمة لها بل ربما تمر وهو معرض عنها غير ملتفت إليها.. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} الحج:32.
إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته، وخلصت لله نيته.. ليس العيد لمن لبس الجديد وتفاخر بالعدد والعديد.. إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد.. وسكب الدمع تائبا رجاء يوم المزيد..1
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية تستعد في هذه الأيام لاستقبال مناسبة عظيمة من مناسباتها، وهي عيد الأضحى المبارك. وقد قيل: من أراد معرفة أخلاق الأمة، فليراقبها في أعيادها. إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها. والمجتمع السعيد الصالح، هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة. وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء.
أيها المسلمون: إن العيد في دين الإسلام، له مفهومه الخاص، وله معناه الذي يخصه دون سائر الأديان ودون سائر الملل والنحل.
إن العيد في الإسلام أيها الإخوة، غبطة في الدين، وطاعة لله، وبهجة في الدنيا والحياة، ومظهر القوة والإخاء، إن العيد في الإسلام فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات.
إن العيد في الإسلام، خلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى. والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار.
إن العيد في الإسلام لا كما يتصوره البعض، انطلاقاً وراء الشهوات، وحلاً لزمام الأخلاق وتفسخاً على شواطئ البحر، وعرضات هنا وهناك. إن العيد في الإسلام، ليس فيه ترك للواجبات، ولا إتيان للمنكرات.
في الناس ـ أيها الناس ـ من تطغى عليه فرحة العيد، فتستبد بمشاعره ووجدانه، لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد، والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي. والكبر والتعالي.
وما علم هذا أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا بعد عز، فتهيج في نفوسهم الأشجان، وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان.
قد يأتي العيد على أناس، ذاقوا من البؤس ألواناً بعد رغد العيش، قد يأتي العيد على أناس تجرعوا من العلقم كؤوساً بعد وفرة النعيم، فاستبدلوا الفرحة بالبكاء وحل محل البهجة الأنين والعناء.
فاتقوا الله أيها المسلمون في عيدكم، لا تجعلوه أيام معصية لله، لا تتركوا فيه الواجبات، ولا تتساهلوا في المنكرات. لا يكن نتيجة عيدكم غضب ربكم عليكم. فإن غضب الله شديد، وعقوبة الله عز وجل، لا يتحملها الضعفاء أمثالنا.
اتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في عيدكم، واجعلوه عيد عبادة لله، عيد طاعة، عيد توبة صادقة، عيداً ترتفع فيه أخلاق الأمة. عيداً نثقل فيه ميزان حسناتنا، عيداً نكفر فيه عن خطايا سابقة، ارتكبتها جوارحنا. قال الله تعالى: {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} الزمر:53. وقال سبحانه: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ} طه:82. وقال عز وجل: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} يونس:58.
أيها المسلمون، كذلك أيضاً يجب أن لا تُنسينا فرحة العيد أن هناك آلاماً وجروحاً في الأمة لم تلتئم بعد. هناك من أبناء الأمة الإسلامية أناس أبرياء مظلومون. سوف يدخل عليهم العيد، وما زالوا تحت وطأة الظلم والقهر والعدوان. كم من يتيم يبحث عن عطف الأبوة الحانية. ويتلمس حنان الأم. وأبوه قد ذهب وقطعت أوصاله بسبب رجم القنابل. وأمه لا يعلم مصيرها إلا الله. سوف يحل العيد بأمة الإسلام، وهناك من يرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه. جاءنا العيد، وهناك الألوف من الأرامل اللاتي توالت عليها المحن فقدت زوجها، تذكرت بالعيد عزاً قد مضى تحت كنف زوج عطوف.
وفوق كل هذا أيها المسلمون، سوف يقدم العيد، ومازالت هناك أراضٍ للمسلمين مغصوبة، منها ما ترضخ تحت وطأة يهود. ومنها مازالت تفتك بها الشيوعية الحمراء. أو الصليبية النصرانية في كثير من أقطار المسلمين..
فأي عيد هذا الذي نفرح فيه. وسهام الشر وسموم العدو يفتك في أجسامنا من كل ناحية. فحق على كل مسلم، حق على كل من في قلبه شعلة إيمان مازالت متوقدة، أن يتذكر كل هذا وهو يستقبل عيده. حق على كل مسلم أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزة قوم قد ذلوا. كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة، بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها. فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها. حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً، فلا تنس أفغانستان ولا فلسطين، ولا العراق وأراضٍ للمسلمين أخرى منكوبة بمجاهديها وشهدائها. بأيتامها وأراملها. بأطفالها وأسراها. كم هو جميل أن نتذكر ونحن نستقبل العيد أن هناك الألوف من الأسر المنكوبة، من يقدم يد الاستجداء والمساعدة، بلقمة طعام، أو كساء لباس، أو خيمة غطاء. وفي المسلمين أغنياء وموسرون. ولكن مع الأسف، استغل النصارى هذه الحاجة الملحة عندهم، لسد جوعتهم، فقاموا بإطعامهم وكسوتهم مع تقديم جرعات لهم من النصرانية مع كل كأس ماء. أو كسرة خبز.
لقد نشط المبشرون النصارى، وكثفوا جهودهم في أوساط هذه الأسر الفقيرة، والمسلمون وأغنياء المسلمين في حالة يرثى لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكم هو جميل كذلك أن يقارن الاستعداد للعيد، لفرحته وبهجته، استعداداً لتفريج كربة، وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى. يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج، فإن لم تستطع خيلاً ولا مالاً، فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية، ولفتة طاهرةٍ من قلب مؤمن.
إنك حين تأسوا جراح إخوانك إنما تأسوا جراح نفسك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ} البقرة:272. وقال سبحانه: {مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ} فصلت:46. أسأل الله أن نكون بهذا المستوى ونحن نستقبل عيدنا..2
نحن -أمة الإسلام- جعل الله لنا من الأعياد عيدين فقط نفرح فيهما، عيد الفطر وعيد الأضحى. يفرح المؤمن أولا، لهداية الله تعالى له، وإنعامه عليه بدين الإسلام الذي ارتضاه له فقال {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة، يفرح لأن الله تعالى هيأ له مواسم طاعة وعبادة مستمرة متعاقبة، يغتنمها العبد ، فيجني الثواب تلو الثواب، ويحوز الخير كل الخير.
وأعيادنا أيها المسلمون تأتي بعد هذه المواسم، فالصائم يفرح لأنه صام رمضان وقامه، وتخرج من مدرسته العظيمة، وحصل على شهادة " التقوى" حين قال الله تعالى في آية الصيام (لعلكم تتقون) وهذه " الأيام العشر من ذي الحجة" ما أعظمها وأجلها عند الله تعالى ، هي أفضل أيام السنة على الإطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)، قالوا : يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)3 فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر إلى الإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
في هذه الأيام تجتمع أصناف العبادة كلها من صلاة وصوم وصدقة وحج ونسك. وفيها يوم عرفة يباهي الله بأهل عرفة أهل السماء، ومن صام هذا اليوم من غير أن يكون حاجا كفرت عنه ذنوب سنتين.
ثم يأتي العيد عقب ذلك كله، لهذا نفرح، وحق لنا أن نبتهج ونفرح، هذا هو مفهوم العيد في الإسلام.
إن يوم العيد يوم شكر له على إنعامه، يوم يفرغ العبد فيه من أداء فريضته فيكافئه سيده ومولاه، لذا نقول لك أخي المسلم، هذا فهمنا للعيد، إنه يوم طاعة فلا تجعله يوم معصية4.
جعلنا الله وإياكم من عباده الصالحين وغفر لنا برحمته إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الأعياد مواسم للفرح والصلة والذكرى، وزينها بحلاوة الذكر والعبادة والتقوى، وألهم المتقين فيها إلى فعل الطاعات وتذكر الممات وما بعده من المهمات، وصلى الله على عبده ورسوله الأكرم نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:
إن المفهوم الحقيقي للعيد في الإسلام هو كما سمعتم من أنه فرح وسرور منضبط بضابط الشرع الحنيف، لا تسيره الأهواء ولا الشهوات، ولا تكدره المعاصي والسيئات.. إن بعض الناس من المسلمين يفهم العيد على أنه يوم للخروج عن قيم الشريعة ومسلماتها وآدابها وأخلاقها، فتراه لا يعرف لله قدرا ولا يرفع لشرعه رأساً، همه في يوم عيده تحقيق أكبر قدر من اللذات ولو كانت في الحرام، وتمزيق الأوقات ولو كانت في الآثام..
عباد الله: اتقوا الله تعالى وتذكروا يوما تشيب فيه الولدان وتضع كل ذات حمل حملها من شدة الهول وعظمة الموقف، وفظاعة المنظر.. ويكون ذلك بأن تقفوا عند حدود الله ولا تتجاوزوها، وأن تعرفوها قبل ذلك، وإننا ننبه المسلمين إلى أمور منكرة يقع فيها بعض المسلمين في الأعياد لأنهم فهموا العيد على ما في نفوسهم وأهوائهم ولم يفهموا العيد على ما أراد الله لهم، فمن تلك الأخطاء:
- ما تفعله بعض النساء من التبرج وإظهار المفاتن والزينة.. أيها الزوج والأب ذكر ابنتك وزوجتك قوله صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)5.
- الاختلاط بين الرجال والنساء والاختلاء بين الرجل والمرأة، فذلك يفضي إلى الشرور والمفاسد.
- واللهو واللعب الذي يشغل عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
- والحفلات والمهرجانات الغنائية.
- والرحلات الجماعية المختلطة.
- والعكوف على مشاهدة الفضائيات الهابطة التي تنشط أيام العيد فتقدم الأفلام والمسرحيات والبرامج المنحلة.
- والإسراف والتبذير في المأكل والملبس.
اجعل -أخي- عيدك عبادة لربك، واجعل فرحك ولهوك منضبطا بشرع الله تعالى وعلى هدي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
العيد أيها المسلمون صلة للأرحام وتفقد للمحتاجين، وتذكر للمنكوبين في كل مكان.. المسلم الحق الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا هو من لا تشغله أفراحه عن أتراح وأحزان أمته المنكوبة في كثير من الأقطار والدول..
فلكم أيها المسلمون إخوة مؤمنون مغصوبة أراضيهم منتهكة أعراضهم مدمرة مساجدهم في كل من العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها، كلها تحتاج من المسلم هما وحزنا ودعاء ودعما ومشاركة في الأحزان ومساندة بالأموال والأنفس والأقلام..
آه ثم آه.. أي عيد يحلو لنا ونحن نشاهد إخوة لنا تنكبهم الحروب وتطحنهم الفتن والمصائب! أي عيد يصفو للمسلم الحق وهو يسمع أنين الثكالى وآهات اليتامى وبكاء الأرامل وصياح المستغيثين..
نسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الضر عن المسلمين في كل مكان، وأن يعيد عليهم العيد وقد تحقق لهم النصر والتمكين،،
اللهم عليك بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى وجميع الكفار وعملائهم من الزنادقة والمنافقين، اللهم أرنا في أعدائك عجائب قدرتك..
اللهم اجعل العيد على المسلمين خيرا وبركة وعلى الكافرين المعتدين جحيما ونارا.. لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم..
أيها المسلمون صلوا على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين